فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{حَيْثُ أَصَابَ} ظرف لتجري أو لسخرنا. وأصاب بمعنى أراد لغة حمير أو هجر.
وفي القاموس: الإصابة: القصد؛ أي: حيث قصد وأراد من النواحي والأطراف.
واعلم أن المراد بقوله بأمره جريان الريح بمجرد أمره من غير جمعية خاطر ولا همة قلب فهو الذي جعل الله من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده لا مجرد التسخير، فإن الله تعالى سخر لنا أيضًا ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، لكن إنما تفعل أجرام العالم لهمم النفوس إذا أقيمت في مقام الجمعية، فهذا التسخير عن أمر الله لا عن أمرنا كحال سليمان عليه السلام.
{وَالشَّيَاطِينَ} عطف على الريح.
{كُلَّ بَنَّاءٍ} بدل من الشياطين، وهو مبالغة بأن اسم الفاعل من بني، وكانوا يعملون له عليه السلام ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات لما سبق في سورة سبأ ويبنون له الأبنية الرفيعة بدمشق واليمن، ومن بنائهم بيت المقدس وإصطخر، وهي من بلاد فارس، تنسب إلى صخر الجني المراد بقوله تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} (النمل: 39).
{وَغَوَّاصٍ} مبالغة غائص من غاص يغوص غوصًا، وهو الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه.
قال في المفردات: قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} (الأنبياء: 82)؛ أي: يستخرجون له الأعمال الغريبة والأفعال البديعة وليس استنباط الدر فقط. انتهى.
وكانوا يستخرجون الدرر والجواهر والحليّ من البحر، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
{وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ} عطف على كل بناء داخل في حكم البدل يقال: قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما وقرنت على التكثير كما في الآية.
قال الراغب: والتقرين بالفارسية: برهم كردن.
قال ابن الشيخ: مقرنين صفة لآخرين، وهو اسم مفعول من باب التفعيل منقول من قرنت الشيء بالشيء؛ أي: وصلته به وشدد العين للمبالغة والكثرة.
والأصفاد: جمع صفد محركة، وهو القيد وسمي به العطاء؛ لأنه يرتبط بالمنعم عليه، وفرقوا بين فعلهما، فقالوا: صفده قيده وأصفده أعطاه على عكس وعد وأوعد، فإن الثلاثي فيه للخير والمنفعة والرباعي للشر والمضرة ولكن في كون أصفد، بمعنى: أعطى نكتة، وهي أن الهمزة للسلب.
والمعنى: أزلت ما به من الاحتياج بأن أعطيته ما تندفع به حاجته بخلاف أوعد، فإنه لغة أصلية موضوعة للتهديد.
ومعنى الآية: وسخرنا له شياطين آخرين لا يبنون ولا يغوصون، كأنه عليه السلام فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في أعمال الشاقة من البناء والغوص ونحو ذلك.
وإلى مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل وأوثقهم بالحديد لكفهم على الشر والفساد.
فإن قيل: إن هذه الآية تدل على أن الشياطين لها قوة عظيمة، قدروا بها على تلك الأبنية العظيمة التي لا يقدر عليها البشر وقدروا على الغوص في البحار، واستخراج جواهرها، وأنى يمكن تقييدهم بالأغلال والأصفاد.
وفيه إشكال، وهو أن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة، فإن كانت كثيفة وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة إذ لو جاز أن لا يراهم مع كثافة أجسادهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة لا نراها، ولا نسمعها وذا سفسطة، وإن كانت أجسادهم لطيفة واللطافة تنافي الصلابة، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفًا بالقوة الشديدة بحيث يقدر بها على ما لا يقدر عليه البشر؛ لأن الجسم اللطيف يكون ضعيف القوام تتمزق أجزاؤه بأدنى المدافعة، فلا يطيق تحمل الأشياء الثقيلة ومزاولة الأعمال الشاقة.
وأيضًا لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال.
قلنا: إن أجسادهم لطيفة ولكن شفافة ولطافتها لا تنافي صلابتها بمعنى الامتناع من التفرق، فلكونها لطيفة لا ترى ولكونها صلبة يمكن تقييدها وتحملها الأشياء الثقيلة ومزاولتها الأعمال الشاقة، ولو سلم أن اللطافة تنافي الصلابة إلا أنا لا نسلم أن اللطيف الذي لا صلابة له يمتنع أن يتحمل الأشياء الثقيلة ويقدر على الأعمال الشاقة.
ألا ترى أن الرياح العاصفة تفعل أفعالًا عجيبة لا تقدر عليها جماعة من الناس.
وقال في بحر العلوم: والأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالتقرين في الصفد، يعني: أن قولهم: لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال حقيقة مسلم.
ولكن ليس الكلام محمولًا على حقيقته؛ لأنهم لما كانوا مسخرين مذللين لطاعته عليه السلام بتسخير الله إياهم له كان قادرًا على كفهم عن الإضرار بالخلق.
فشبه كفهم عن ذلك بالتقرين في الأصفاد، فأطلق على الكف المذكور لفظ التقريب استعارة أصلية، ثم اشتق من التقرين؛ يعني بمعنى المجازي لفظ مقرنين، فهو استعارة تبعية بمعنى ممنوعين عن الشرور.
وفي الأسئلة المقحمة: الجن أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة ولا دليل يقضي؛ بأن تلك الأجسام لطيفة أو كثيفة، بل يجوز أن تكون لطيفة، وإن تكون كثيفة، وإنما لا نراهم لا للطافتهم كما يزعمه المعتزلة. ولكن لأن الله تعالى لا يخلق فينا إدراكًا لهم. انتهى.
قال القاضي أبو بكر: الأصل الذي خلقوا منه هي النار، ولسنا ننكر مع ذلك أن يكثفهم الله تعالى ويغلظ أجسامهم ويخلق لهم أعراضًا زائدة على ما في النار، فيخرجون عن كونهم نارًا ويخلق لهم صورًا وأشكالًا مختلفة، فيجوز أن نراهم إذا قوى الله أبصارنا كما يجوز أن نراهم لو كثف الله أجسامهم.
قال القاضي عبد الجبار: إن الله تعالى كثفهم لسليمان حتى كان الناس يرونهم وقواهم حتى كانوا يعملون له الأعمال الشاقة.
والمقرّن في الأصفاد لا يكون إلا جسمًا كثيفًا.
وأما إقداره عليهم وتكثيفهم في غير أزمان الأنبياء فإنه غير جائز؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون نقضًا للعادة، كما في آكام المرجان في أحكام الجان.
وقال بعضهم: إن الشياطين كانوا يشاهدون في زمن سليمان، ثم إنه لما توفي أمات الله أولئك الشياطين وخلق نوعًا آخر في غاية الرقة واللطافة.
وفيه أن الشياطين منظرون، فكيف يموتون إلا أن يختص الأنظار بإبليس أو إلا أن يحمل الشياطين على كفار الجن، فإنهم ماردون أيضًا.
روي: أن الله تعالى أجاب دعاء سليمان بأن سخر له ما لم يسخره لأحد من الملوك، وهو الرياح والشياطين والطير، وسخر له من الملوك ما لم يتيسر لغيره مثل ذلك، فإنه روي: أنه ورث ملك أبيه داود في عصر كيخسرو بن سياوش، وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره إلى كيخسرو، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث قليلًا حتى هلك، ثم سار إلى مرو، ثم سار إلى بلاد الترك، فوغل فيها، ثم جاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أين وافى بلاد فارس، فنزلها أيامًا، ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة، ثم إلى صنعاء.
وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء، وهي بلقيس ما ذكره الله تعالى كتابه الكريم وغزا بلاد المغرب، الأندلس وطنجة وإفرنجة ونواحيها.
{هَذَآ} أي: فسخرنا وقلنا له: هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم والبسطة والتسلط على ما لم يسلط عليه غيرك.
{عَطَاؤُنَا} الخاص بك الذي لا يقدرعليه غيرنا {فَامْنُنْ} من قوله منّ عليه منًّا؛ أي: أنعم؛ أي: فأعط منه من شئت.
{أَوْ أَمْسِكْ} وامنع منه من شئت، وأو للإباحة.
{بِغَيْرِ حِسَابٍ} حال من المستكن في الأمر؛ أي: غير محاسب على منّه وإحسانه ومنعه وإمساكه، لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق.
وفي المفردات: قيل تصرف فيه تصرف من لا يحاسب؛ أي: تناول كما تحب وفي وقت ما تحب وعلى ما تحب وأنفقه كذلك. انتهى.
قال الحسن: ما أنعم الله على أحد نعمه إلا كان عليه تبعة إلا سليمان؛ فإن أعطى أجر عليه وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة وإثم.
وهذا مما خص به والتبعة ما يترتب على الشيء من المضرة، وكل حق يجب للمظلوم على الظالم بمقابلة ظلمه عليه.
قال بعض الكبار المحققين: كان سؤال سليمان ذلك عن أمر ربه، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان امتثال أمر وعبادة، فللطالب الأجر التام على طلبه من غير تبعة حساب ولا عقاب، فهذا الملك والعطاء لا ينقصه من ملك آخرته شيئًا، ولايحاسب عليه أصلًا، كما يقع لغيره.
وأما ما روي: أن سليمان آخر الأنبياء دخولًا الجنة لمكان ملكه، فعلى تقدير صحته لا ينافي الاستواء بهم في درجات الجنة، ومطلق التأخر في الدخول لا يستلزم الحساب.
وقد روي: «إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة سنة».
ويجوز أن يكون بغير حساب حالًا من العطاء؛ أي: هذا عطاؤنا ملتبسًا بغير حساب لغاية كثرته كما يقال للشيء الكثير.
هذا لا يحيط به حساب أو صلة له وما بينها اعتراض على التقديرين.
{وَإِنَّ لَه عِندَنَا لَزُلْفَى} أي: لقربة في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا.
{وَحُسْنَ مَآبٍ} وهو الجنة.
وفي الحديث: «أرأيتم ما أعطي سليمان بن داود من ملكه، فإن ذلك لم يزده إلا تخشعًا ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعًا لربه». انتهى.
أي: ولذا وجد الزلفى، وحسن المرجع، فطوبى له حيث كان فقيرًا في صورة الغنى.
وفي الإشارة إلى أن الإنسان إذا كمل في إنسانيته يصير قابلًا للفيض الإلهي بلا واسطة، فيعطيه الله تعالى من آثار الفيض تسخير ما في السماوات من الملائكة كما سخر لآدم بقوله: {اسْجُدُوا لآدَمَ} (البقرة: 34).
وما في الأرض كما سخر لسليمان الجن والإنس والشياطين والوحوش والطيور.
وذلك لأن كل ما في السماوات وما وفي الأرض أجزاء وجود الإنسان الكامل، فإذا أنعم الله عليه بفيضه سخر له أجزاء وجوده في المعنى.
أما في الصورة، فيظهر على بعض الأنبياء تسخَر بعضها إعجازًا له كما ظهر على نبينا عليه السلام تسخر القمر عند انشقاقه بإشارة أصبع، ولذا قال: هذا عطاؤنا إلخ يشير إلى أن للأنبياء بتأييد الفيض الإلهي ولاية إفاضة الفيض على من هو أهله عند استفاضته.
ولهم إمساك الفيض عند عدم الاستفاضة من غير أهله ولا حرج عليهم في الحالتين، وإن له عندنا لزلفى في الإفاضة والإمساك وحسن مآب؛ لأنه كان متقربًا إلينا بالعطاء والمنع كما في التأويلات النجمية.
روي: أن سليمان عليه السلام فتن بعدما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة ثم انتقل إلى حسن مآب. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهة، وأنشد الزجاج:
ألف الصفون فما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عبيدة: الصافن: الذي يجمع يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم.
وقال القتبي: الصافن: الواقف في الخيل وغيرها.
وفي الحديث: «من سره أن يقوم الناس له صفونًا فليتبوأ مقعده من النار» أي يديمون له القيام، حكاه قطرب، وأنشد النابغة:
لناقبة مضروبة بفنائها ** عتاق المهارى والجياد الصوافن

وقال الفراء: على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة.
جاد الفرس: صار رابضًا، يجود جودة بالضم، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد.
وقيل: الطوال الأعناق من الجيد، وهو العنق، إذ هي من صفات فراهتها.
وقيل: الجياد جمع جود، كثوب وثياب.
الرخاء: اللينة، مشتقة من الرخاوة.
{يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها عليّ فطفق مسحًا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب قال رب إغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}.
جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته، عليه السلام، عنده واصطفائه، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئًا مما لا يليق بمنصب النبوّة.
واحتمل لفظ خليفة أن يكون معناه: تخلف من تقدمك من الأنبياء، أن يعلي قدرك بجعلك ملكًا نافذ الحكم، ومنه قيل: خلفاء الله في أرضه.
واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله، ولا يلزم ذلك من الآية، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع.